فن وصورة

الانطباعية: سياقها التاريخي وتأثيرها الفني

في خضم التقلبات التي عصفت بأوروبا في القرن التاسع عشر على أصعدة متعددة، بدءًا من التطورات التكنولوجية حيث انتشر اختراع الكاميرا والصورة الفوتوغرافية، وأيضًا التغيرات الاجتماعية حيث أنتجت الثورة الفرنسية عام 1789 أقل ما يمكن أن يُقال عنه زلزلة لماهية النظام الطبقي والديني الفرنسي حينها، شهدت أوروبا الغربية ولادة حركة جديدة في الرسم، اتخذت من فرنسا مهدًا لها.

الانطباعية هو الاسم الذي أُطلق على أول لوحة عُرضت للانطباعية للرسام لإكلود مونيه عام 1874، وهي لوحة "شروق الشمس". ولسخرية القدر، أخذت حركة الانطباعية اسمها من النقد الموجَّه لطريقة الرسم، حيث قال أحد النقاد إن هذا مجرد "انطباع" وليست لوحة متكاملة؛ فكان اسم الحركة الفنية "الانطباعية".

الانطباعية هي حركة في الرسم نشأت في فرنسا في ستينيات القرن التاسع عشر، تتميز بالاهتمام بتصوير الانطباع البصري للحظة، وخاصة فيما يتعلق بتأثير الضوء واللون.

لم تنشأ الانطباعية بصورة منظمة، وحتى روادها لم يكونوا متفقين على معايير أو هدفٍ لتغيير وتجديد الرسم، بل كانت أشبه بالتطور الطبيعي لما آلت إليه الظروف المحيطة، إضافة إلى انتعاش التبادل الثقافي بين أوروبا الغربية وأمم أخرى كاليابان والبلاد الإسلامية. فمثلًا، كان هناك ما يسمى بـ "الجابونيزم" "Japonisme" ويعني انتشار او شعبية كل ما يخص التصاميم والرسم والنحت الياباني بين أوساط الفنانين في فرنسا، وقد أثّر هذا الفن بشكل واضح على اتجاه الرسم الغربي، وبالأخص الحركة الانطباعية، حيث كان مصدرًا لإلهام الرسامين لدرجة ان البعض اقترح أن صانع المطبوعات الياباني هوكوساي يمكن اعتباره "أبًا" ضمنيًا للفن الغربي الحديث، حيث كانت الانطباعية وما بعد الانطباعية مستوحاة من اللون والتراكيب غير المتماثلة والأشكال المستقيمة والوضعيات غير التقليدية والموضوعات اليومية لمطبوعاته. كما سنناقش لاحقاً الفن الإسلامي.

كان الرسم في أوروبا الغربية له أغراض محددة، فقد كان حاجة وضرورة وليس كما يُعامل الآن على أنه ترف. كان الرسم بالأساس له وظيفتان: الأولى دينية، وهي تصوير قصص الكتاب المقدس وأحداثه وشخوصه على جدران الكنائس ولوحات يُكلف بها الفنان من قِبل الكنيسة. وهذه أيضًا ليست لأغراض الزينة بالذات، وإنما كانت لمساعدة الناس آنذاك على التعرف على هذه القصص، حيث كانوا أميين أو لا يجيدون اللاتينية، وهي لغة الكتب المقدسة في العصور الوسطى.

الهدف الثاني كان تصوير الملوك والعوائل الأرستقراطية والأغنياء عموما؛ أي أن الرسم هنا يقوم مقام الكاميرا في وقتنا الحالي. ومن الجدير بالذكر أنه لم يكن ممكنًا، أو بالأحرى كان نادرًا، وجود لوحات تصوّر الفقراء أو الفلاحين مثلًا في تلك الأزمنة. وهناك أيضًا تصوير حوادث مهمة كمعارك تاريخية أو أحداث الأساطير الإغريقية والرومانية، مثل لوحة ولادة فينوس وغيرها. كان الرسم مهنة يتعلمها الرسام منذ الصغر، حيث يتم تدريسه بورشات التعليم والعمل على إتقان الرسم ليكون رسامًا محترفًا ينتظر أن يُكلّف برسم شيء ويصنع لنفسه اسمًا.

مع انتشار التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر، سؤال "ما هو الفن؟" تدفّق إلى السطح وبشكلٍ مُلحٍ أيضًا. فإذا كانت الكاميرا تُنتج ما هو مشابه للواقع أكثر من الرسم، فما هو الهدف من الرسم؟

حوّل هذا التغيير الرسمَ تحوّلًا محوريًا، حيث إنه، أولًا: حرّر الرسم من القيود التي تُجبر الرسام على الواقعية والدقة في تصوير الواقع. ثانيًا: أصبح الرسم تجربة المشاهد (الرسام) الخاصة مع الواقع، وتفسيره للواقع، وهذا ما أنتج لنا الحركة الانطباعية وغيرها من الحركات الفنية للرسم الحديث.

أولى البوادر في اتجاه الرسم هذا كانت على يد الأربعة المؤسسين لهذه الحركة وهم: كاميل بيسارو، كلود مونيه، أوغست رينوار، وإدغار ديغا. كان كاميل بيسارو هو الأب الروحي لهذه الحركة، حيث كان أغزر هؤلاء الرسامين إنتاجًا للوحات التي تم عرضها في المعارض، إضافة إلى كونه من جمع هؤلاء الأربعة معًا لتأسيس أول معرض رسم خاص بالانطباعيين.

رسم بيسارو لوحات تُصوّر مشاهد حياة الريف البسيطة، واهتم بنقل التفاصيل الدقيقة لأثر الضوء على عناصر المشهد. لم تختلف الانطباعية عن الرسم المعتمد آنذاك فقط من ناحية التقنية والأسلوب المستخدم، بل اختلفت أيضًا، وبشكل أساسي، في الموضوعات التي تعنى بتصويرها. فقد رسم رواد الانطباعية أناسًا عاديين، كما رسم مونيه في لوحته غداء على العشب لحظات عادية لاجتماع الأصدقاء، أو مشاهد الحياة الروتينية، كتصوير بيسارو للفلاحين، أو كما رسم إدغار راقصة الباليه. كان رواد الانطباعية يُظهرون اهتمامًا كبيرًا بتصوير اللحظات العابرة مع التقاط كل تفاصيل رقصة الضوء واللون معًا بحركات فرشاة جريئة وواثقة.

مثّلت هذه الحركة ولادة الرسم الحديث Modern Art، وهو نتاج مباشر لإعادة تعريف الفن، وأنتجت لنا حركات فرعية أخرى كالوحشية، وأهم روادها هو هنري ماتيس، وحركة ما بعد الانطباعية ومن أشهر روادها فان جوخ. هذه الحركات تأثرت بالانطباعية التي هيأت المناخ لولادتها، والتي بدورها كانت نتاج الانفتاح الثقافي في أوروبا الغربية، وبالأخص فرنسا، على ثقافات الشرق القديم حضارات الشرق الأقصى التي تتضمن الثقافات اليابانية، وايضا فن الحضارة الإسلامية التي تمتد آنذاك من الهند وأفغانستان إلى شمال أفريقيا. 

في عام 1893، تم افتتاح أول معرض للفن الإسلامي في باريس، عُرضت فيه المنمنمات لكمال الدين بهزاد وغيرها. تردد هنري ماتيس على معارض الفن الإسلامي كثيرًا، وشهد بتأثيرها على أسلوبه في الرسم. وهذا يساعدنا على أن نستنتج، أولًا: أنه لا يوجد إبداع بشري حكر على شعب أو جغرافيا معينة، فإن النتاج الحضاري الفريد، ولو تمتع بخصوصية البيئة التي أنتجته، إلا أنه ليس إلا نتيجة الانفتاح على الآخر.

ثانيًا: لا توجد مفاهيم ثابتة، حيث تتأثر هذه المفاهيم بالظروف المادية المحيطة التي لا تنفك أن تتغير، وهذا ما يجعلنا دومًا في صدد إعادة تعريف أو إعادة تأكيد تعريف مفهوم معين، كما حصل للفن مع اختراع الكاميرا. ونحن الآن في عصر نواجه فيه اختراعًا كالذكاء الاصطناعي، فوُضعنا مجددًا مقابل هذا التساؤل والحاجة الماسة لتأكيد ماهية الفن.

كانت الانطباعية، شأنها شأن غيرها من الحركات الفنية، نتاجًا مباشرًا للظروف التاريخية والثقافية المحيطة بها، فقد ولدت من رحم سياقها الزماني والمكاني بكل ما حمله من تحولات جذرية. مثّلت هذه الحركة منعطفًا حاسمًا في تاريخ الفن، إذ أعادت تعريفه، محرّرة إياه من قيود الوظيفية التقليدية، وممهّدة الطريق لولادة تيارات فنية جديدة جعلت من الانطباعية نقطة انطلاق. وهكذا، يتضح أن الفن لا يتطور في فراغ، بل يتشكل ويُعاد تشكيله في تفاعل دائم مع المتغيرات التقنية والاجتماعية والثقافية، وهو ما نشهده اليوم في ظل ثورات تكنولوجية جديدة كالثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، التي تضعنا من جديد أمام تساؤلات جوهرية حول ماهية الفن وحدوده.


المصادر

Davies, P.J.E., Denny, W.B., Hofrichter, F.F., Jacobs, J., Roberts, A.M. and Simon, D.L. (2016) Janson’s History of Art: The Western Tradition. 8th ed. Boston: Pearson.

The Metropolitan Museum of Art. (n.d.) Impressionism: Art and Modernity. [online] Available at: https://www.metmuseum.org/essays/impressionism-art-and-modernity [Accessed 2 May 2025].

Barry, M.A. (2004) Figurative art in medieval Islam and The Riddle of Bihzad of Herat (1465–1535). New York: Flammarion.


الكلمات المفتاحية:

الانطباعية، الرسم الحديث، الكاميرا والتصوير، كلود مونيه، كاميل بيسارو، الجابونيزم، الفن الياباني، الفن الإسلامي، التأثير الثقافي، إعادة تعريف الفن.