في كتابه مجتمع الإنهاك، يقدم بيونغ-تشول هان نقدًا عميقًا للمجتمع المعاصر، حيث يرى أن القرن الحادي والعشرين لا تحدده التهديدات الفيروسية أو البكتيرية، بل الأمراض العصبية مثل الاكتئاب، واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD)، ومتلازمة الإنهاك. ويؤكد هان أن هذه الحالات ناتجة عن كما سنناقش لاحقا"فائض في الإيجابية"، بدلاً من السلبية المرتبطة بالأنظمة المناعية التي سادت العصور السابقة. ومن خلال تحليل فصول محورية مثل "السلطة العصبية"، و"ما بعد المجتمع الانضباطي"، و"الملل العميق"، و"الحياة النشطة"، و"مجتمع التعب"، و"مجتمع الإنهاك"، يستعرض هذا المقال تشخيص هان للإرهاق الحديث، ونقده لثقافة الإنجاز ودعوته إلى العودة للممارسات التأملية.
السلطة العصبية: مرض الإيجابية
يفتتح هان تحليله بمقارنة بين النموذج المناعي الذي ساد القرن العشرين، والذي تميز بالفصل الواضح بين الذات والآخر، الصديق والعدو، والنموذج العصبي للقرن الحادي والعشرين. فبينما كان النموذج الأول يستند إلى الدفاع ضد التهديدات الخارجية، فإن الثاني يتميز بانهيارات داخلية ناجمة عن فائض في المحفزات والمعلومات والمتطلبات. ويكتب هان: "الأمراض العصبية مثل الاكتئاب، واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، واضطراب الشخصية الحدية، ومتلازمة الإنهاك، تشكل المشهد المرضي في بداية القرن الحادي والعشرين" (ص. 9). هذه الأمراض ليست التهابات بل "احتشاءات"، ناتجة عن فائض من الإيجابية يغمر الفرد.
ويعكس هذا التحول من السلطة المناعية إلى العصبية تغيرات اجتماعية أوسع. فالعولمة والرقمنة قد أذابت الحدود، وأزالت "الآخر المناعي"، مستبدلة إياه بفروق سطحية لا تحمل سمّ الغيرية، اي لا تحمل عداوة للغير بل استهلاك بدون تفعيل المناعة ورسم للحدود. ويرى هان أن هذا النموذج الجديد لا يتوافق مع النموذج المناعي، لأنه يقوم على التهجين والاتصال، لا على الاستبعاد. والنتيجة عالم لم تعد فيه العنف ناتجًا عن تهديدات خارجية، بل عن ضغوط داخلية متأصلة في النظام نفسه – "رعب التماهي" الذي يؤدي إلى إنهاك نفسي.
ما بعد المجتمع الانضباطي: صعود "فرد الإنجاز"
يبني هان على مفهوم ميشيل فوكو للمجتمع الانضباطي، لكنه يرى أن هذا المجتمع قد استُبدل بمجتمع الإنجاز (Leistungsgesellschaft) . ففي المجتمعات الانضباطية، كانت السلطة تعمل عبر النواهي والأوامر ("لا يجوز" و"يجب")، مما أدى إلى إنتاج "أفراد الطاعة" الذين يستبطنون السلطة الخارجية. أما في مجتمعات الإنجاز، فإن السلطة تحكم عبر الإيجابية وعبارة "يمكنك"، من خلال حث الأفراد على تعظيم إنتاجيتهم. سكان هذا النظام الجديد هم "رواد أعمال لذواتهم"، يسعون باستمرار لتحسين أدائهم.
لكن هذا التحول ليس دون ثمن. ففرد الإنجاز لم يعد مضطهدًا من الخارج، بل عالق في دوامة استغلال الذات. يقول هان: "يسلم فرد الإنجاز نفسه إلى الحرية القهرية – أي إلى الإجبار الحر على تعظيم الإنجاز" (ص. 20). والوهم بالحرية يخفي عنف النظام، حيث يصبح الفرد في آنٍ معًا "الجلاد والضحية". والنتيجة مجتمع من المكتئبين والخاسرين، الذين أنهكتهم المطالبة المستمرة بالإنجاز.
وينتقد هان تفسير آلان إيرنبرغ للاكتئاب باعتباره فشلًا في "أن يصبح المرء ذاته"، معتبرًا أن السبب الحقيقي هو الضغوط النظامية وتآكل الروابط الاجتماعية. وفرد الإنجاز، فرد يلتهمه العمل وخالٍ من المعنى العميق.
الملل العميق: فقدان الانتباه التأملي
في فصل "الملل العميق"، يأسف هان لتراجع الانتباه التأملي العميق في عالم يهيمن عليه النشاط المفرط وتعدد المهام. ويقارن بين الإدراك المشتت للفرد الحديث والتأمل الغامر الذي يقف وراء الإنجازات الثقافية والفلسفية. مستعينًا بوالتر بنيامين، يصف الملل العميق بأنه "طائر الحلم الذي يفقس بيضة التجربة" (ص. 22)، أي حالة من الاسترخاء العقلي الضرورية للإبداع.
لكن المجتمع الحديث يفضل "الانتباه الفائق" – نمط سطحي وتفاعلي من الإدراك يقوم على التحفيز المستمر. ويرى هان أن هذا النمط بدائي، يشبه آليات النجاة لدى الحيوانات البرية. وعدم القدرة على تحمّل الملل يعيق الإبداع، إذ إن الابداع الحقيقي ينبثق من فترات السكون والتأمل. ويكتب هان: "الهرولة المحمومة لا تُنتج شيئًا جديدًا. إنها تعيد إنتاج وتسريع ما هو موجود بالفعل" (ص. 22).
ويبرز الفصل أهمية "القدرة السلبية" – أي القدرة على الرفض ومقاومة التحفيز – كقوة موازنة لنشاط الإنجاز. فبدون هذه القدرة، يصبح الفرد متلقيًا سلبيًا للمنبهات الخارجية، عاجزًا عن التفكير العميق أو الفعل الهادف.
الحياة النشطة: اطلاق العنان الجديد في العمل
ينتقد هان تحليل حنة أرندت في كتابها الوضع الإنساني، وخصوصًا تمييزها بين الحياة النشطة (vita activa) والحياة التأملية (vita contemplativa). فرغم تمجيد أرندت للفعل والعمل، يرى هان أن تحليلها لا يراعي تحول طبيعة العمل في الحداثة المتأخرة. ترى آرنت أن الحياة النشطة تشمل ثلاثة أنشطة أساسية: العمل، والصنع، والفعل، وكلها تتعلق بتشكيل العالم المشترك والتفاعل معه. أما الحياة التأملية فتتمحور حول التفكير والفهم، حيث يسعى الفرد إلى إدراك الحقائق والمعاني بدلاً من الانخراط المباشر في الشؤون الدنيوية.
لقد تحول "الحيوان العامل" الذي تحدثت عنه أرندت إلى فرد إنجاز مفرط النشاط والعصابية، يدفعه استغلال الذات وليس الإكراه الخارجي.
ويرى هان أن الفرد الحديث قد اختُزل إلى "حياة مجردة" – حالة خالية من السرد أو المعنى المتعالي. ويغذي هذا الاختزال سعيًا محمومًا نحو الإنتاجية، في محاولة لملء الفراغ الذي خلفه غياب الأطر المجتمعية والروحية. والنتيجة مجتمع يصبح فيه العمل غاية في حد ذاته، وتذوب فيه الحدود بين الحياة والعمل. ويكتب هان: "نشاط العمل المجرد يتطابق تمامًا مع الحياة المجردة. العمل فقط والعيش فقط يحددان ويشترطان بعضهما البعض" (ص. 27).
تُختَتم الفقرة بمفارقة لافتة: فعلى الرغم من أن أرندت تحتفي بالحياة النشطة (العمل، الفعل، المشاركة السياسية)، إلا أن هذا الاحتفاء يكشف دون قصد عن أهمية الحياة التأملية. فغياب التأمل والتفكر العميق يساهم في الإنهاك النفسي والعصبي الذي يعاني منه الإنسان الحديث. وهكذا، يصبح التأمل الذي ظاهرياً يُستبعد، ضرورياً لصحة الفرد والمجتمع.
مجتمع التعب: من الإنهاك العصابي إلى انفتاح الوجود
يفكك بايونغ-تشول هان في هذا الفصل المفارقة الجوهرية للتعب في الحداثة المتأخرة، موضحًا أن التعب ليس حالة واحدة، بل يتجلى في صورتين متناقضتين جذريًا: تعب "الأنا" وتعب "النحن". تعب الأنا هو التعب المدمر، المغلق، حيث يغرق الفرد في عزلة خانقة تُضعف علاقته بذاته وبالعالم. أما تعب النحن، فهو تعب خصب، يتجلى فيه زوال الأنا المفرطة وبروز انفتاح جديد على الآخر والوجود المشترك.
ينطلق هان من تأملات بيتر هاندكه، الذي يصور "التعب الأساسي" بوصفه تجربة وجودية منفتحة، لحظة يتراجع فيها ضجيج الذات الفردانية ويُفسَح المجال لبزوغ العالم بكل جماله وهشاشته. في هذا التعب، لا يُقاس الوجود بالإنتاج، بل بالتلقي والبقاء والانتباه.
هذا التعب الأصيل يقف نقيضًا لمجتمع الإنجاز، الذي يؤلّه النشاط، ويحوّل الحياة إلى سباق لا ينتهي. لكنه في نظر هان، يشكّل فعلًا مقاومًا: مقاومة صامتة، غير صاخبة، لكنها جذرية، ترفض الانصياع لمنطق الكفاءة القصوى والاستهلاك المستمر. ففي لحظة التعب الحقيقي، يكتب هان، "يقلّ الأنا، ويزداد العالم"، ويختم بنبرة وجدانية: "لقد صار التعب صديقي. لقد عدت إلى العالم من جديد." (ص. 41)
بهذا المعنى، لا يصبح التعب مجرّد علامة ضعف، بل إمكانية وجودية؛ طريقًا نحو استعادة الذات، وإعادة تأسيس العلاقة بالآخر والعالم خارج منطق الإنجاز القهري.
مجتمع الإنهاك: أزمة استغلال الذات
تتبلور في الفصول الأخيرة رؤية هان لمجتمع الإنهاك، حيث يُستهلك الأفراد تحت وطأة الضغوط التي يفرضونها على أنفسهم. ففرد الإنجاز، الذي تحرر من الهيمنة الخارجية، أصبح مستبِدًا لذاته، مما يؤدي إلى عدوان ذاتي وتدمير داخلي. ويشبه هان هذه الحالة ببطل كافكا بروميثيوس، حيث يلتهم النسر – رمز استغلال الذات – كبد البطل المقيّد.
ويتميز مجتمع الإنهاك بأزمة في الإشباع، حيث يؤدي غياب "الآخر" أو "الطرف الثالث" إلى حرمان الأفراد من الاعتراف والمكافأة. وعلى عكس الذات الأخلاقية الكانطية التي تعمل تحت أوامر الأنا الأعلى، يسعى فرد الإنجاز إلى اللذة من خلال العمل لكنه لا يجد سوى الإنهاك. ويكتب هان: "يفني فرد الإنجاز المكتئب والمنهك نفسه بنفسه، إذا صح التعبير. إنه متعب، مرهق من ذاته، وفي حرب مع نفسه" (ص. 51).
الخاتمة: نحو بديل تأملي
يقدم كتاب مجتمع الإنهاك لهان تشخيصًا حادًا للإرهاق الحديث، متتبعًا جذوره في التحول من المجتمعات الانضباطية إلى مجتمعات الإنجاز، وتآكل الممارسات التأملية، وصعود استغلال الذات. ويؤكد نقده على الحاجة إلى استعادة قيمة "السلبية" – القدرة على التوقف والمقاومة والتفكر – كدواء مضاد لعنف الإيجابية.
ويتحدى الكتاب القرّاء لإعادة النظر في القيم التي تقوم عليها الحياة المعاصرة: الإنتاجية، الاتصال، والنشاط الدائم. وبدلاً منها، يدعو هان إلى العودة إلى الانتباه العميق، والتعب الجماعي، وزمن "اللاجدوى" التأملي. ويرى أن استعادة هذه الممارسات هو السبيل الوحيد لتجاوز فخ الإنهاك واكتشاف غنى الوجود الإنساني من جديد. كما يلاحظ هان بمرارة: "إن مجتمع الإيجابية، الذي يتوهم تحرره من جميع القيود الخارجية، يقع في شراك قيود ذاتية مدمرة" (ص. 56). فطريق الخلاص لا يكمن في "المزيد من الفعل"، بل في التوقف، والرؤية، والوجود.