في طريق عودتك إلى المنزل، تهب الرياح بقوة ويتساقط المطر بغزارة، فتبحث عن مأوى من العاصفة. تجد نفسك داخل مقهى شعبي تفوح منه رائحة النعناع القادمة من النارجيلة، حيث يجلس مجموعة من الشباب يتابعون مباراة في الدوري الإنجليزي بحماس، يتبادلون الهتافات والمشادات مع مشجعي الفريق الآخر. تنظر حولك، فتجد عجوزين غارقين في لعبة الطاولة، يدرسان كل حركة بتركيز شديد. تجلس على طاولة قريبة، وفجأة تلتقط أذنك نقاشًا سياسيًا عن استراتيجية الحزب الحاكم في الانتخابات المقبلة.
قد تبدو هذه المشاهد عشوائية، لكن جميعها تشترك في شيء واحد: إنها تفاعلات استراتيجية تخضع لما يعرف بـ نظرية اللعبة. بدءًا من قرارك دخول المقهى، إلى مجريات المباراة، إلى تخطيط السياسيين لاستمالة الناخبين كل هذه المواقف تعتمد على اختيارات الأفراد واستجابات الآخرين، مما يشكل شبكة من القرارات المتداخلة التي تؤثر في نتائج مختلفة.
ما هي نظرية اللعبة؟
قد يوحي الإسم بأنها مجرد تسلية، لكنها في الواقع علم يهتم بدراسة كيفية اتخاذ الأفراد أو المجموعات لقراراتهم في سياقات تتأثر فيها النتائج بخيارات الآخرين. وفقًا لموسوعة ستانفورد للفلسفة، تُعرَّف نظرية اللعبة على أنها تحليل للطرق التي تؤثر بها قرارات اللاعبين على بعضهم البعض، بحيث تؤدي إلى نتائج قد لا تكون مقصودة من أي طرف على حدة.
على الرغم من حداثة هذه النظرية حيث تم اعتبارها كنظرية متكاملة في عام 1944 لكنها ليست بالتصور الجديد وإنما لها جذورا تمتد بعيدا في التاريخ، فقد تمت الإشارة إلى ما يمكن اعتباره كبدايات مفاهيمية لنظرية اللعبة في محاورات أفلاطون (راجع محاورة السمبوزيوم-معركة ديليوم.)، ففي هذه المناظرة يصف سقراط التفكير الذي يمر به الجندي في مقدمة صفوف الجيش اذ يفكر الجندي في أن نجاح الدفاع لا يعتمد بالضرورة على مشاركته في التصدي للهجوم، إذ يمكن للجنود الآخرين القيام بهذه المهمة. ومع ذلك، فإن المخاطر تظل قائمة؛ فسواء هاجم أم لا، قد يُصاب أو يُقتل في النهاية. وإذا انتصر جيشه، تبقى احتمالية إصابته واردة، أما إذا انهزموا، فخطر موته يصبح أكثر احتمالًا، فالحل المنطقي الوحيد في هذه الحالة هو الهرب. لكن لو فكر الجندي هكذا وايضًا فكر كل الجنود معه (على اعتبار أنهم تحت نفس الظروف) في هذه الطريقة، فإن خسارتهم ستكون حتمية.
لتفادي انتشار هذا النوع من التفكير الذي قد يضعف عزيمة الجيش، وُضعت تدابير صارمة تمنع الفرار من المعركة، مما دفع الجنود إلى القتال باعتباره الخيار الأكثر أمنًا. ومن أبرز الأمثلة على ذلك قرار القائد الإسباني كورتيس في المكسيك، حين أمر بحرق سفن جيشه، ليزيل عنهم خيار التراجع ويحفزهم على القتال بكل قوتهم. والتاريخ مليء بمثل هذه الاستراتيجيات، التي لا يسع المجال لحصرها جميعًا.
كيف تطورت نظرية اللعبة؟
تم تطوير نظرية اللعبة عام 1944 على يد عالمي الرياضيات والاقتصاد جون فون نيومان وأوسكار مورغنستيرن، حيث وُضعت كإطار رياضي لتحليل التفاعلات البشرية من منظور استراتيجي. انطلقت النظرية من فرضية أن القرارات التي يتخذها الأفراد أو المؤسسات تشبه في بنيتها الألعاب، إذ تتضمن استراتيجيات مختلفة، وفائزين وخاسرين، ومكافآت وعقوبات، فضلاً عن الأرباح والتكاليف. في البداية، كان الهدف الأساسي منها فهم السلوك الاقتصادي، بما في ذلك استراتيجيات الشركات، وآليات الأسواق، وسلوك المستهلكين.
لاحقًا، قام عالم الرياضيات جون ناش بتوسيع نطاق النظرية، حيث قدَّم مفهوم التوازن الناشي الذي يصف حالة يستقر عندها، اللاعبون في استراتيجيات معينة، بحيث لا يكون لأي منهم دافع لتغيير قراره بشكل منفرد. وقد أدى هذا المفهوم إلى ثورة في فهم القرارات التنافسية والتعاونية، مما جعله يستحق جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1994 إلى جانب كل من جون هارساني ورينهارد سيلتن، تقديرًا لمساهماتهم في تطوير نظرية اللعبة وتطبيقاتها المتعددة في الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع.
تصنيفات الألعاب في نظرية اللعبة
يمكن تصنيف الألعاب الاستراتيجية وفقًا لعدة معايير، أبرزها:
- عدد اللاعبين: يمكن أن تكون اللعبة بين فردين، أو عدة أطراف، أو حتى بين دول وشركات.
- طبيعة النتائج: تُقسم الألعاب إلى مجموع ثابت، حيث فوز طرف مرتبط بخسارة آخر (مثل البوكر)، ومجموع متغير، حيث يمكن لجميع الأطراف تحقيق مكاسب مشتركة (مثل المفاوضات السياسية أو التعاون في بيئة عمل)
- التعاون والتنافس: في بعض الألعاب، يكون من مصلحة اللاعبين التعاون، بينما في أخرى يكون الصراع هو الأساس. على سبيل المثال، في التنافس السياسي، قد تتصارع الأحزاب للحصول على الأصوات، لكن بعضها قد يجد مصلحة في تشكيل تحالفات لتحقيق أهداف مشتركة.
نظرية اللعبة في حياتنا اليومية
من قراراتنا البسيطة، مثل اختيار المقهى المناسب، إلى القضايا الكبرى، مثل سياسات الحكومات واستراتيجيات الشركات، نجد أن تحليل المواقف وفقًا لنظرية اللعبة يساعد في فهم طبيعة السلوك البشري. سواء كنت لاعب طاولة يخطط لحركته القادمة، أو سياسيًا يضع استراتيجياته الانتخابية، فإن قراراتك تتأثر دائمًا بتوقعاتك حول سلوك الآخرين.
هكذا، دون أن ندرك، تتحكم نظرية اللعبة في العديد من تفاصيل حياتنا، من التفاعلات الاجتماعية البسيطة إلى أكثر القرارات تعقيدًا في الاقتصاد والسياسة والمجتمع.
المصادر
Tadelis, S. (2008) Game theory: an introduction [eBook]. Princeton: Princeton University Press.
Stanford Encyclopedia of Philosophy (1997) Game theory. Available at: https://plato.stanford.edu/entries/game-theory/ (Accessed: 24 March 2025).
Brams, S.J. and Davis, M.D. (2025) ‘The development and basics of game theory’, Encyclopedia Britannica. Available at: https://www.britannica.com/summary/game-theory (Accessed: 27 March 2025).
الكلمات المفتاحية:
اتخاذ القرارات، نظرية اللعبة، تحليل القرارات، استراتيجيات اتخاذ القرار، نظريات اتخاذ القرار، التفاعل الاستراتيجي، القرار في علم الاجتماع.