سياسة ومجتمع

كيف تفسر أفكار ابن خلدون تحولات سوريا الحديثة


قد نتساءل عن مسار الأوطان والأمم: كيف تبدأ المجتمعات بالنشوء؟ كيف تنمو وتزدهر، ثم تبدأ في الانحدار؟ هذا السؤال شغل عقول الكثيرين عبر العصور. وعندما نظر ابن خلدون إلى التاريخ، لم يقتصر على سرد الأحداث بل حاول الوصول إلى نظرية تفسر ما يحدث في التاريخ من خلال دراسة العقل البشري والمجتمعات.

إن أهمية مقدمة ابن خلدون لا تكمن فقط في كونها بداية حقيقية لعلم الاجتماع، بل في قدرتها على ربط التطور الاجتماعي والفكري معًا. مقدمة ابن خلدون فتحت لنا الباب لفهم كيفية تشكيل المجتمعات وولادة الدول، وكيفية ذبول بعضها مع الزمن. ابن خلدون لم يكن مجرد مؤرخ، بل كان طبيبًا اجتماعيًا يعكف على فهم نبض الأمم، موضحًا كيف تؤثر التغيرات الاجتماعية في الفكر وتوجهات المجتمع. وقد كشف عن مفهوم العصبية كعنصر أساسي لتماسك الدولة، وأوضح كيف أن انهيارها يؤدي إلى انهيار الدولة. كما تناول الترف الذي في رأيه يقوض الأسس ويؤدي إلى ضياع القيم والهوية.

ومع مرور 50 سنة من التحولات في سوريا، عكست هذه السنوات تحولاتها السياسية والاجتماعية الكبرى. فقد بدأت سوريا في التأسيس الحديث في عهد الأسد، ثم دخلت مرحلة جديدة في عهد بشار الأسد لتتحول تدريجيًا إلى دولة منهكة، مليئة بالفساد والانقسامات. وقد مرّت سوريا بمراحل تطور ونمو ثم تراجع، وهو ما يمكن تفسيره عبر مفاهيم العصبية والترف التي طرحها ابن خلدون.

ولكن، كما يعلمنا التاريخ، في قلب الانكسار يمكن أن ينبثق نور جديد. فهل هناك من يستطيع استعادة العصبية الوطنية التي تجمع الأمة؟ وهل نتمكن من استعادة ما فقدناه في زحمة الرفاهية؟ هذه هي الأسئلة التي علينا الإجابة عنها إذا أردنا أن ننهض من رماد الانهيار.

من خلال هذا المقال، نهدف إلى تقديم طريقة يمكن أن تساهم في إعادة بناء العصبية الوطنية في سوريا، التي تمثل أساسًا لاستعادة الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المستقبل.


 العصبية الوطنية كمفهوم أساسي

في فكر ابن خلدون، تُعد العصبية أحد الركائز الأساسية التي تفسر قيام المجتمعات وتطورها. ولنشرح مفهوم العصبية بشكل أوضح، يمكننا القول إنها الرابط الاجتماعي الذي يجمع الأفراد في جماعة واحدة، ويشكل قوة دافعة لتأسيس الدولة والمحافظة على استقرارها. بحسب ابن خلدون، كلما كانت العصبية قوية، كانت الدولة أكثر قدرة على التوسع والتطور، بينما إذا ضعفت العصبية، بدأت الدولة في الانهيار تدريجيًا. هذا المفهوم يعد أساسًا لفهم كيفية تطور الأمم واندثارها، خاصة عندما يتلاشى هذا الرابط الاجتماعي الذي يقوم على التضامن والتكافل بين الأفراد.

وقد اعتبر ابن خلدون أن العصبية لا تقتصر فقط على الروابط القبلية أو العائلية، بل تشمل أيضًا الروابط الفكرية والثقافية التي تساهم في تشكيل هوية المجتمع وبناء تماسكه. فالعصبية، من منظور ابن خلدون، هي محرك أساسي لكل التحولات الاجتماعية والسياسية. وعندما تنتقل الدولة من مرحلة القوة إلى مرحلة الضعف، تضعف العصبية نتيجة لزيادة الترف والتفكك الاجتماعي، حيث يبدأ الأفراد في الاهتمام بالمصالح الشخصية على حساب المصلحة العامة.



تطور سوريا وفقًا لنظرية ابن خلدون

النشوء والتأسيس في عام 1963

في عام 1963، شهدت سوريا تحولًا سياسيًا كبيرًا بعد استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة من خلال انقلاب عسكري. كان هذا التغيير بداية تشكيل عصبية سياسية جديدة في البلاد. الحزب، الذي كان يسعى للسيطرة على الدولة، لم يكن يهتم بالعدالة الاجتماعية كما حاول أن يروج، بل كان هدفه الأساسي هو تعزيز سلطته من خلال فرض سيطرته على الدولة والمجتمع. وبناءً على نظرية ابن خلدون، العصبية هنا لم تكن العصبية الوطنية الحقيقية التي تقوم على الوحدة الاجتماعية الحقيقية، بل كانت عصبية سياسية تقوم على التكتلات والتحالفات التي شكلها الحزب لتعزيز سلطته على حساب المجتمع السوري.

مع مرور الوقت، كان حزب البعث يعتمد على القومية العربية وترويج فكرة الوحدة الوطنية، ولكن في الواقع كانت هذه المبادئ مجرد غطاء لتحقيق السيطرة السياسية من خلال تحالفات شكلها الحزب مع القوى العسكرية والسلطات في الدولة. بهذا الشكل، تم بناء "دولة حديثة" ولكن تحت سيطرة الحزب الواحد الذي كان يروج لفكرة أنه يعبر عن وحدة الأمة العربية.

مرحلة التوطيد في السبعينات

في السبعينات، ومع صعود حافظ الأسد إلى السلطة، بدأ عهد جديد من الاستبداد والتماسك السياسي في سوريا. حافظ الأسد، الذي كان قد استولى على السلطة من خلال انقلاب عسكري في عام 1970، ركز على بناء عصبية تقوم على تعزيز سلطته الشخصية وعلاقاته الطائفية والقبلية. الأسد استغل انتماءه للطائفة العلوية لتعزيز نفوذه وخلق تحالفات مع النخب العسكرية والاقتصادية التي كانت موالية له، مما سمح له بتوطيد سلطته بشكل أكبر.

في هذه المرحلة، كانت العصبية التي تأسست في البداية تحت راية القومية العربية قد تحولت إلى عصبية ضيقة قائمة على مصالح الطبقة الحاكمة وجماعات الأسد المقربة. كانت السلطة تركز على تماسك النخبة الحاكمة، ما أدى إلى تعزيز سيطرة العائلة الحاكمة على مقاليد الأمور في البلاد، وبدأت تظهر الدولة أكثر ارتباطًا بنظام الأسد ذاته، وليس بالشعب أو الدولة كمؤسسة.

مرحلة التلف والرخاء

مع مرور الوقت، وخاصة في العقود اللاحقة من حكم حافظ الأسد، بدأ يتضح تآكل العصبية الوطنية الحقيقية في سوريا نتيجة للفساد المستشري داخل النظام وزيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. في البداية، كانت سوريا قد شهدت بعض الرخاء بفضل التحولات الاقتصادية التي كانت قائمة على المبادئ الاشتراكية، لكن مع بداية التسعينات، بدأ الفساد يسود المؤسسات الحكومية. بدأت السلطة تنشغل بالمصالح الشخصية للنخبة الحاكمة على حساب المصلحة العامة.

ابن خلدون في تفسيره للانهيار، يقول إن زيادة الترف والتفسخ الاجتماعي يؤديان إلى انهيار العصبية التي كانت تجمع المجتمع. وفي حالة سوريا، كان النظام يعزز الترف لنخبه المقربة بينما كان غالبية الشعب يعاني من الفقر والتهميش. أصبح النظام أكثر انغلاقًا وتفككًا، بحيث بدأ يفضل المصالح الخاصة على حساب المصلحة الوطنية، مما أدى إلى تآكل العصبية التي كانت تجمع أفراد المجتمع السوري.

وفي السنوات الأخيرة من حكم الأسد الابن، وبالتحديد مع بداية عام 2011، شهدت سوريا تحولات هائلة على كافة الأصعدة، تحولات جسدت تدهور العصبية الوطنية وأظهرت بوضوح انهيار مفاصل الدولة. ففي حين كان الشعب السوري يعاني من تدهور الخدمات العامة، وانعدام العدالة الاجتماعية، كانت الدولة تتعرض لانهيار تدريجي في هيكلها الإداري والاقتصادي. في هذه المرحلة، بدأ النظام يواجه أزمة حقيقية في تحقيق أي نوع من التماسك الداخلي بين مكوناته المختلفة. وفقًا لنظرية ابن خلدون، هذا التدهور كان نتيجة مباشرة لتدهور العصبية الوطنية؛ حيث كان النظام، بدلاً من أن يعزز تماسك المجتمع ويواجه التحديات الداخلية، يركز على تحصين سلطته وتعزيز مصالح الفئات الحاكمة على حساب المصالح الوطنية العامة.

كان الربيع العربي، الذي بدأ في تونس في أواخر عام 2010، الشرارة التي أشعلت أجواء الغضب في العديد من الدول العربية. انتشرت الموجة الثورية بسرعة عبر الحدود، مما ألهم العديد من الشعوب في المنطقة للوقوف في وجه الأنظمة الحاكمة التي لم تستجب لاحتياجات شعوبها. وفي سوريا، كانت الاحتجاجات التي اندلعت في مارس 2011 جزءًا من هذا المد الثوري العام، حيث خرج السوريون في إلى الساحات يطالبون بأبسط حقوقهم.

لكن الثورة السورية كانت تختلف عن باقي الثورات في المنطقة، إذ سرعان ما تحولت إلى صراع مسلح دموي بسبب القمع الوحشي الذي واجهته السلطة السورية بقيادة بشار الأسد. على الرغم من مطالبات الشعب السوري بالإصلاحات والحرية، ردت الحكومة بالقوة المفرطة، مما أدى إلى تفاقم الأزمة وتحولها إلى حرب دامية بين الشعب العُزّل والنظام الذي كان يستخدم أموال الشعب لشراء أسلحة يقتل بها أبنائه.

في عهد بشار الأسد، تفاقم الفساد في سوريا بشكل غير مسبوق. تحول الاقتصاد السوري إلى كيان يعتمد بشكل كبير على شبكات الفساد، مثل تهريب الممنوعات والاتجار بالمخدرات. وفي الوقت نفسه، عاش قادة النظام في رفاهية مفرطة، ما أدى إلى تكديس الثروات على حساب الشعب، مما أضعف قدرتهم على التأثير في الواقع السياسي والاجتماعي. هذا الترف والانفصال عن معاناة الشعب جعلهم أقل قدرة على فهم احتياجات الناس، وأدى إلى زيادة الفجوة بين النظام والشعب، مما أسهم في انفجار الأوضاع السياسية والاجتماعية.

 كيف شكلت العصبية الوطنية في إدلب قُوَّةً لمواجهة تحديات النظام السوري

 

في هذه المرحلة التي غرق فيها النظام السوري في غيابات الفساد والتفكك الداخلي، بدأ بشار الأسد وأتباعه في تفادي مواجهة الواقع. وكما نعلم، كان الشعب السوري يعيش معاناة يومية، خاصة في الشمال السوري، حيث كانت الأوضاع أسوأ بكثير. في حين كان النظام يختبئ خلف أكاذيب تلو الأخرى. بشار الأسد، الذي كان يرى نفسه رمزًا للسلطة والنفوذ، انتهى به الأمر عاجزًا عن مواجهة حقيقية مع الشعب.

لم يقتصر هذا التواطؤ على بشار الأسد وحده، بل امتد ليشمل أتباعه الذين احتموا وراء أكاذيب الدعاية المضللة لتبرير سياساتهم الفاشلة. كانوا جميعًا غارقين في حالة من الإنكار الكامل للواقع الذي وصلت إليه البلاد، حتى بدا وكأنهم فقدوا القدرة على التفكير النقدي والسياسي. ومع مرور الوقت، تحوّلوا إلى مجرد أدوات بيد النظام الذي ظلّ يراهن على بقائه رغم الانهيار الشامل الذي أحاط به من كل جانب.

أما في الجهة المقابلة، فقد كانت إدلب تقدم صورة معاكسة تمامًا لهذا الواقع. فبينما كان النظام يتجنب التحديات ويغرق في الفساد، كان أبناء الشمال السوري يعملون بذكاء على الصعيد السياسي والعسكري. لم يكن هدفهم مجرد المقاومة العسكرية البسيطة، بل كانوا يعملون وفق رؤية استراتيجية تتجاوز حدود المعركة العسكرية التقليدية. فهم لم يقتصروا على العنف، بل سعوا إلى تجميع القوى الوطنية، وتوحيد الصفوف، وتنظيم صفوفهم تحت راية العصبية الوطنية التي ارتبطت بإيمانهم العميق بالقضية.

وفي هذا الإطار، كانت معركة ردع العدوان التي خاضوها تحمل طابعًا خاصًا، فالإيمان بالمهمة وبالواجب الديني جعلهم يواجهون التحديات بلا خوف. هذه العصبية الوطنية لم تكن مجرد شعارات ترفعها الحناجر، بل كانت حقيقة تنبض في قلوبهم، مما جعلهم يقفون أمام التحديات الكبرى في ظروف قاسية، مستمدين قوتهم من إيمانهم ووحدتهم.

إعادة بناء سوريا وإعادة بناء العصبة الوطنية

المؤسسات والعدالة الاجتماعية

إن إعادة بناء سوريا يتطلب بالدرجة الأولى استعادة العصبية الوطنية التي تماسك الشعب السوري من خلالها في مراحل تاريخية سابقة. ولتحقيق ذلك، لا بد من إرساء الأسس التي تضمن وحدة الشعب وتلاحمه، وفي مقدمتها بناء مؤسسات وطنية قوية ومستقلة. هذه المؤسسات يجب أن تعمل على تعزيز العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات بشكل عادل، بحيث لا تتركز السلطة والموارد في يد فئة ضئيلة، بل تكون مُوزعة على جميع أطياف الشعب.

يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إعادة بناء النظام السياسي بحيث يتسم بالشفافية والمشاركة الشعبية الواسعة. كذلك، يجب إصلاح النظام القضائي ليتحقق مبدأ العدالة والمساواة أمام القانون، وذلك بعيدًا عن أي تدخلات سياسية أو ضغوط من النخب الحاكمة. كما أن تحسين النظام التعليمي والصحي وتوفير فرص العمل لجميع المواطنين يشكل ركيزة أساسية في استعادة الثقة بين الشعب والدولة.

إعادة بناء العصبية الوطنية تتطلب أيضًا تجديد الهويات الثقافية والروحية التي توحد الشعب السوري، بعيدًا عن الانقسامات الطائفية والعرقية التي فرقت بينهم. يجب أن يعاد الاعتراف بالمواطنين في سوريا كجزء لا يتجزأ من هوية واحدة تستند إلى المواطنة والكرامة الإنسانية.


الخاتمة

ختامًا، من خلال ما مرّت به سوريا من تحولات سياسية واجتماعية، ومن خلال مفاهيم ابن خلدون، يتضح أن انهيار العصبية الوطنية الهشة وتفشي الفساد قد قاد البلاد إلى مرحلة من الضعف والتفكك. لكن كما أشار ابن خلدون، فإن النهضة تأتي دومًا بعد الانكسار إذا ما توفرت الإرادة والتخطيط السليم. إذا كانت سوريا ستستعيد قوتها، فإن ذلك يتطلب استعادة العصبية الوطنية التي تجمعها حول هدف مشترك، بعيدًا عن الفساد والانقسامات.

إن إعادة بناء سوريا لا يمكن أن تتم دون بناء مؤسسات وطنية قوية تعزز العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع فئات الشعب. يجب أن يكون لكل مواطن حق في العدالة والفرص المتساوية، وأن يتم القضاء على جميع أشكال التفرقة والفساد التي مزقت النسيج الاجتماعي. وفي النهاية، التحدي الأكبر يكمن في قدرة الشعب السوري على توحيد صفوفه وإعادة بناء الوطن على أسس من العدالة والمساواة، ليعيش الجميع في سلام واستقرار.


المصادر:

الزغير، خ. (2020). سورية الدولة والهوية: قراءة حول مفاهيم الأمة القومية الوطنية في الوعي السياسي 1946 - 1963. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

الزعبي، ز.، الحلاج، ع. ع.، الزعبي، ص. و الحلاج، ج. (2022). تطور خريطة التقسيمات الإدارية في سورية. مجموعة مشروعات دراسات الشرق الأوسط.

الكيلاني، ش. د. (2017). مدخل في الحياة السياسية السورية: من تأسيس الكيان إلى الثورة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

التقرير رقم 24 للمجموعة الدولية لمعالجة الأزمات. (2004). سوريا في عهد بشار (2): تحديات السياسة الداخلية. عمان/بروكسل.

محيد الهيتي، ر. (). دراسة تحليلية لفكر "ابن خلدون" ودوره في نشوء علم الاجتماع: النظريات الاجتماعية.

عرابي، ع. ابن خلدون وعلم الاجتماع. مجلة كلية الآداب. DOI: 10.37376/jofoa.vi10.2830.

Çaksu, A. (2007). Ideals and Realities: Ibn Khaldun's Justification of Asabiyya and Political Power. Felsefe Dünyası, 46(2), 106-124.


الكلمات المفتاحية:

العصبية الوطنية, تحرير سوريا, أفكار ابن خلدون