وفقا لموقع ستاتيستا Statista للإحصائيات فإن سكان المدن في عام 2024 وصل إلى 57.7% من سكان العالم مقارنة بعام 1960 فإنه كان لا يتجاوز 33.6 %. تعد هذه الزيادة بنسبة سكان المدن الناتجة عن الهجرة من الريف للمدينة، بديهية استجابةً لعوامل اقتصادية وثقافية وبيئية. ما تعنيه هذه الاحصائية ان التحول الديموغرافي هذا يعيد تشكيل النموذج السائد لحياة البشر، اذ اصبحت المدينة هي الموطن الاساسي لنشاط الانسان على عكس ما كان سائدا لقرون. لكن ماهي المدينة؟ متى وكيف نشأت؟
تعد المدينة من أهم إن لم تكن أهم إنجازات الحضارة البشرية، فالمدينة هي نتيجة عضوية للنشاط الإنساني، فلم تبنى المدن بطريقة واعية من قبل جهات معينة، سلطة أو مجاميع بشرية متعاونة، وإنما نشأت بطريقة تكيف وتناغم مع البيئة المحيطة وحاجات الإنسان. بالإضافة إلى تطورات لم تكن سوى بنات الصدفة المحضة كالزراعة مثلا التي ساهمت باستقرار المجتمعات البشرية برقع جغرافية معينة وتكون القرى ومن ثم تشكلت المدن الأولى عند ضفاف الأنهار على أراضي خصبة كالرافدين والنيل، فتولد عنها أولى الحضارات البشرية، إذ نشأت أول القوانين المكتوبة لتنظيم العيش الجماعي. كما أفاد أرسطو في تحليله للمدينة حيث يركز على أهمية المدينة بكونها تشذب الانسان وتشحذه اخلاقيا وتخرج ما يملك من إمكانات قد تذهب هباءا لو لم يتمدن. إذ توفر المدينة القوانين التي تسهل عيش الانسان بظروف آمنة مما يسمح له بالازدهار الفكري والمعرفي.
هذا ما يدفعنا لنتساءل، لماذا تعد المدينة شرط قائم وضروري لإمكانية وجود النشاط الذي يجعل الانسان إنسانا كالقوانين والاخلاق والفن ؟
توفر المدينة بيئة خصبة للتبادل الفكري على نطاق واسع، إضافة إلى رفاهية العيش بالمدن مقارنة بحياة الرعي أو الفلاحة التي تقدمها القرية، تعد الأولى مركزا يتكاثف فيه النشاط العقلي والفكري مما يمكن الإنسان من تطوير أفكار وأشكال حياة تسمح له بالتناغم مع هذا التكتل العضوي الذي يعيش فيه.
فالمدينة تاريخياً بما يميزها من خواص: كالكثافة السكانية، والتماس المباشر مع السلطة الحاكمة، والتبادل الثقافي والتجاري، يعد ما يمنحها هذه القدرة على إنتاج أو السماح بالظهور لما هو أعمق ما يمكن أن يميز الإنسان عن باقي الحيوانات، وهو تشكيل الواقع الاجتماعي تشكيلاً ناتجاً عن فكر وتأمل. والعكس أيضاً، فالواقع الاجتماعي يشكل حياة البشر وفكرهم عموماً. هذه القدرة العجيبة ما يجعل المدينة مركز اهتمامنا، فهي تعكس من نحن وتشكل من سنكون في آن واحد، على العكس من إمكانات التواصل والفضاءات المحدودة في أشكال التجمع البشري الأخرى، كالقرية والتجمعات البدائية بخصائصها أيضاً.
مدن الجنوب العالمي والعيش في ظل الشركات العالمية ومخلفاتها
منذ بدء الثورة الصناعية الى يومنا هذا، ترتب بشكل حتمي على الشركات الكبرى أن تستولي على ثروات الأمم التي تشغل موقعا هامشيا من حيث القوة العسكرية أو الاقتصادية كالبلدان العربية والأفريقية وتتسم بكم لا يستهان به من الانقسامات والتعقيدات القبلية أو الطائفية التي تجعل منها فريسة سهلة المراس لمفترس شره.
تعاني بلدان الجنوب العالمي Global South عموما من عدم القدرة على السيطرة على ثرواتها بشكل كامل، او حتى تحقيق الاستفادة التي تسمح بمقاومة التغيرات المناخية. حيث تأتي هذه التغيرات المناخية بشكل مباشر من نشاط هذه الشركات التي تملك القدرة العسكرية والمادية التي تمكنها من الاستمرار بنشاطها. فهي تفاقم أزمة تغير المناخ من جهة ومن جهة أخرى تستنزف الموارد المحلية لهذه الدول.
المدينة العربية إلى أين من كل هذا؟
تعاني المدينة العربية من ما يشبه الانفصال او النفي عن ذاتها في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية كالهجرة الداخلية الناتجة عن تضاؤل فرص سبل العيش الآمن، نتيجة لصراعات اقليمية، او لتداعيات تغير المناخ. فأزمة الهوية المحلية إضافة إلى أزماتها انفة الذكر تشكل الوصفة المثالية لمستقبل مجهول.
المدينة العربية ليست مدينة وليدة الاستعمار كنظيراتها بالجنوب العالمي كمدن إفريقيا الغربية مثلا داكار Dakar وابدجان Abdjan وما شابهها فهي مدن استعمارية بناها الاستعمار لتسهيل طرق نقل الموارد الاولية لأوروبا عن طريق البر أو البحر. أما المدن العربية فهي مدن لها هويتها المستقلة الناتجة عن نشاط حضاري وثقافي محلي عريق.
نقصد ازمة الهوية من الناحية العمرانية تحديدا، حيث اننا لا نلاحظ توجها محددا يصور فلسفة من يسكن المدينة ولا يعكس ثقافتهم وقيمهم. وهذا أمر مؤسف لما للمدينة العربية من تراث معماري ثمين. يقول ايتالو كالفينو Italo Calvino في كتابه مدن لا مرئية : " تتكون المدن من العلاقات بين مسافات فراغها واحداث ماضيها" هذه العلاقة تبدو مشوهة في حاضر المدن العربية العمراني. ان ما يسمى حاليا بالعمارة الإسلامية على تنوعها، كان مناسبا سواء من الناحية العملية اوالجمالية للبيئة المحلية، فضلا على تجسيده لقيم وثقافة المجتمع.
من الجانب الاخر، تعد مشكلة الهجرة إلى المدنية من القضايا الجوهرية التي لا يستهان بها. فعلى ما هي عليه من طبيعة غير مستحدثة، فهي من أكثر النشاطات التي مارسها البشر على مر العصور: كالهجرة للنجاة من خطر ما او لغرض العيش بمكان حيث الأمن والوفرة، لكن الهجرة العشوائية التي تراكم العشوائيات السكنية التي لا تسمح لا بحياة كريمة للمهاجر ولا بإنتاج مدينة ذات قوام متجانس ومتناغم، فإنها تعتبر مشكلة. ويؤكد تقرير الامم المتحدة حجم هذه الاشكالية، على حسب UN-HABITAT فان المدن العربية تحتوي 16.4 مليون نازح نزوحا داخليا نتيجة للعوامل المذكورة آنفا.
المدينة هي جسد حي وروحه هي المجتمع البشري الذي يسكنه، فكما يؤثر المرض الجسدي بنفس الفرد ويهدد سلامته النفسية فإن اي تراكيب غير صحية في المدينة كمكان فإنها تنتج مجتمعا يعاني من علل قد تبدو للوهلة الاولى أنها متأتية من طبيعة المجتمع، لكنها ناتجة في الواقع من تشكيل وتركيب المكان. مثال على ذلك الجريمة، اذ تعد مرادفة للأحياء التي تقل فيها الخدمات بالأخص العشوائيات السكنية التي تبنى بشكل عفوي من قبل المهاجرين من اماكن اخرى اقل حظا. حيث ينعدم وجود المدارس والفضاءات المناسبة للتجمع كالمساحات النظيفة والخضراء. وهذا التفاوت مقارنة بأماكن تتركز فيها الخدمات ينتج نوعا من الاستبعاد من الكل المتكامل للمدينة. فيبدو للسكان أنهم بدءا من موقعهم وصفتهم بالنسبة للرقعة التي يشغلونها بأنها غير رسمية (لا يملكون الأرض بصورة قانونية) مما يعطي الحس بأنهم خارج القانون وخارج النظام، وهذا بالنتيجة يسهل الإخلال بباقي القوانين. اي بمعنى اخر ان المكان قد شكل وانتج واقعا فرض على السكان وأعاد تأكيد الاستبعاد حيث ان هذه الوصمة ستلازم الفئة التي تسكن المكان، وتشكل عائقا بطريق التقدم او الاندماج في الحياة الاجتماعية والعملية في المدينة.
لا يوجد حل سحري او فوري لما تواجهه المدن العربية من أزمات، لكنني اقترح لكل من يؤمن بامكانية التغيير التامل في مفهموم civic capital الذي شكله عالم الاجتماع الامريكي انطوني اوروم 1998، هذا المصطلح يشير الى ما تملكه المدينة من قوة في راسمالها المدني، واقتبس قوله من مقالته The Urban Imagination of Sociologists " اولا امتلاك رؤية قوية وتوجه واضح للمكان، والتزام قوي بفكرة المكان، وتحالفات بين القطاعات الرائدة في المكان، وخاصةً الأوساط السياسية والتجارية، وجسور تربط بين القطاعات الرائدة في المكان ومجتمعاته المتعددة" المكان هنا إشارة للمدينة. فراس المال المدني يعد مقياسا لقدرة المجتمع على استيعاب المشكلات وحلها والازدهار في نطاق المدينة. وهذا لا يتحقق الا بتطور النشاط المدني على مستوى مناطقي بدءا من الحي وصولا الى المدينة ككل، من قبل السكان وهذا يتطلب شعور حقيقي بالانتماء والمسؤولية تجاه المكان.
تخطيط المدن والسيطرة
في بادئ الأمر كانت المدينة تولد بشكل طبيعي وتتطور بتطور وازدهار الإمبراطوريات التي تنتمي اليها. لكن ما أبعد مدن اليوم عن أجدادها مدن ما قبل الثورة الصناعية. صحيح ان بغداد والاسكندرية، تم بناءها منذ التأسيس وفق تخطيط واضح استجابة لرغبات حكامها،. لكن هذا يظل استثناءا امام القاعدة، حيث ان غالبية المدن القديمة كانت تنمو بشكل تدريجي نتيجة للنشاط التجاري او لانها كانت مراكز إدارية. فملخص القول ان مدن اليوم ليست بنفس سياق مدن الأمس من ناحية عدد السكان وتكاثره، الهجرة، أساليب التنقل، شكل التبادلات التجارية العالمية.. الخ.
فأصبح من الصعب أن تتطور مدينة بشكل طبيعي بدون تدخل الانسان اداريا وفنيا بتخطيطها وتقسيمها وبناءها. فتخطيط المدن حاجة وان تم بشكل مدروس فإنه سيسمح بالظروف التي تنتج بيئة ترفع أو تسحق جودة العيش في المدينة. لكن تخطيط المدن يحمل في طياته جوانب مظلمة فقد لا يقتصر التخطيط على رسم شوارع والتقسيم العمراني Zoning لبناء نوع معين من الأبنية، كالمناطق السكنية، او الادارية، او حدائق عامة، او بنايات خدمية كمستشفيات وغيرها.. بل هناك تخطيطا يساهم بزيادة الفروق الطبقية وخلق بنيات مغلقة لا تسمح بحرية الحركة وتعيق حرية الوصول لمزايا المدينة لبعض فئات المجتمع. مثال على هذا الأحياء السكنية المسورة Gated Communities اي تكون أشبه بمدينة متكاملة مخصصة لطبقة معينة من المجتمع، محاطة بسور، إذ تشابه بنظامها مدن الاستعمار التي تتسم بالفصل العنصري، الفرق الوحيد هو ان هذا فصل طبقي. أو يكون هدف التخطيط هو لزيادة سيطرة السلطة والحد من فرص التجمع في الأماكن العامة التي قد تولد حركات احتجاجية كما نرى في القاهرة حيث تم توسيع شوارع ساحات الاحتجاج كميدان التحرير ووضعه تحت مراقبة ووجود عسكري واضح.
وهذا الامر لا يققتصر على المدن العربية، فقد فعل البارون هاوسمان بباريس تأدية لرغبة نابليون الثالث سنة 1853 شيء مماثل لكن على نطاق اوسع. حيث هدم مدينة باريس وشق طرقات عريضة على عكس أفرع العصور الوسطى التي تميزت بها باريس، وتشييد أبنية تمثل وجه باريس الذي نعرفه اليوم، نتيجة لهذا تم هدم جميع أشكال وجود الطبقة الكادحة في وسط باريس وطردهم إلى محيط المدينة. وادى توسيع الطرق بشكل كبير إلى القدرة على السيطرة على العصيان المدني وعدم قدرة المعتصمين على سد الطرق.
نفس الشيء قام به روبرت موسس المُخطط العمراني في نيويورك 1930 من حيث التصاميم التي تستبعد فئات من المجتمع وتعيق حريتها بالوجود أو استخدام ما تتيحه المدينة من مزايا.
في الختام لابد من الاحتفاظ بالأمل رغم كل ما طال المدينة العربية من خراب، فهي تنهض من جديد وتقاوم الأفول وهذا لا يتم إلا بالروح التي تجعل من استمرارها واقعا وهم سكانها الذين يساهمون بشكل حيوي باستمرارها كحاضِرات عريقة. فكما قيل فإن الأهداف بلا خطط مجرد امنيات فلابد لسكان المدن العربية من التحرك والشعور بالمسؤولية تجاه ما تمثله مدنهم من رمز ثقافي وهيكل يشكل حياتهم بشكل مباشر كما أشرنا والتحرك باتجاه التأثير بصنع القرار بشأن تطويرها والحفاظ عليها.
المصادر
Statista (2024) Share of the world's population living in urban or rural
areas from 1960 to 2024. Available at: https://www.statista.com/statistics/1262483/global-urban-rural-population/
(Accessed: 27 September 2025)
Aristotle (n.d.) Politics, Book I
Van de Ven, A. (2016) ‘The Spatialisation Struggle: The Heritage of Open Spaces in Baghdad’.
Harvey, D. (2012) Rebel Cities: From the Right to the City to the Urban Revolution. London: Verso
Myers, G. (2011) African Cities: Alternative Visions of Urban Theory and Practice. London: Zed Books, p.32.
Orum, A.M. (1998) 'The urban imagination of sociologists: the centrality of place', The Sociological Quarterly, 39(1), pp. 1-10. Available at: https://www.jstor.org/stable/4121008 (Accessed: [19 October 2025]).
الكلمات المفتاحية:
المدينة العربية، تاريخ المدينة، تغير المناخ